مجتمعمقال رأي

الجمعة السوداء

رمال تيفي_يونس الهديدي

فجأةً ودونما سابق انذار، اختفى صوتُ عقرب الساعة الحائطية ( تيك تاك) داخل هزيم رعد مجهول المصدر. وفيما يشبه يوم الحشر العظيم تعالتْ الأصوات بالصراخ والأنين. ماذا يحدث بالضبط؟ هل انهار حيّنا؟ أم ضلّت قنبلة نووية طريقها إلى مدينتنا؟ كانت الساعة تشير إلى 23 :11 وقيل 23 :10 اختلف الجميع حول الأمر؛ ولم يتفقوا إلا على شيء واحد هو أن زلزالا قويًا ضرب البلد.


تركنا الأسقف خلفنا ولذنا بالفرار مستقبلين بأضواء الهواتف ممرات سالكة تقودنا إلى الساحات العمومية والحدائق التي تفصل الأحياء عن بعضها البعض. انقطعت خطوط الاتصال. كثر اللغط. احتمت كل أسرة بربها، وعلى شكل تجمعات صغيرة كان الجميع يحاول أن يستوعب ما وقع بالضبط والمحتمل أن يقع مستقبلا.


إنه الزلزال صرخت إحداهن بحشرجة صوت متعب، تأكد الأمر عندما نجح البعض في ربط الاتصال بعائلته في أعالي جبال سوس. لحظتها تسلل كل منا مترقبا ومراقبا ما حل ببيته، تبدو البيوت هنا في نواحي تارودانت متماسكة إلى حد ما. تتوالى الأخبار في مواقع التواصل الاجتماعي بسرعة مهُولة. قضى كثير من الشهداء في منطقتي الحوز وتارودانت نحبهم تحت الردم، لقد انهدمت البيوت هناك على أهلها. تملكنا خوف رهيب أطفالاً ونساءً ورجالاً وشيوخا. لم يعد الخروج من البيت مخاطرة كبيرة يا كافكا بل الدخول إلى البيت هو المغامرة عينها. ربط الله على صدورنا بما كان يكفي للعودة إلى البيت، هنيهة كانت تكفي لنخطف فيها بعض الملابس التي تقينا حر الصقيع وبعض الملاءات التي نفترشها أو نتخذها خيمة تحمي ما تبق من خصوصيتنا بعدما فقدنا الكثير منها جراء الصدمة، فمنا من فر بدون ملابس أو بملاس داخلية ومنا من فر حافيا ومنا من أغمي عليه دونما إشعار.


قضينا ليلتنا في العراء إلا من بعض الأغراض الخفيفة التي استطعنا ترحيلها من البيت. تَكوَّم الأطفال بين أحضان الأمهات فقد استشعروا الخوف دونما معرفة سببه. لعب كل أب دور الحارس المؤتمن على أسرته التي تلتحف سقفا تلألأت نجومه كما لم تفعل يوما.


هناك حيث عمّ الخراب واستيقظت رائحة الموت مُعلنةً سقوط علو خريطة الوطن، كانت تطالعنا أخبار من قضوا تحت الردم، وبالسرعة التي عاشها الزلزال ترتفع أعداد الشهداء. أسر بكاملها قضت، معلمين وأساتذة وتلاميذ جميعهم اخترقوا حجب الغياب في ثوان معدودات.


اختلطت المشاعر وامتزجت الأحاسيس بين الألم والهلع، لا أحد منا استطاع أن يكون محايدا عاطفيا في تلك الليلة. هب الجميع مُفرِدا يد العون لإخوانه في المناطق المنكوبة. تحرك المغرب بهزة أخرى تحكمها إرادة البقاء. هزة التضامن وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. هذا كله حدث في ليلة واحدة.


مات كثيرون، استشهدوا فرحين بلقاء ربهم بعدما ضخوا الحياة في الأمكنة الميتة، فالساحات التي كانت مهملة يسكنها الغبار، والحدائق التي كانت تبحث عن أعين الناظرين، أمست الليلة ملاذاً بعدما كانت مقابر لا يزورها أحد. وفي الليالي الموالية اكتشفنا بعدما التحفنا الحداد صدق هذه الأماكن التي صارت عناوين لبيوت بلا سقوف.


بدا الأمر مفارقة مغرقة في الإبهام. فالآن فقط، أدركنا أن المكان هو الملاذ الأخير حين ترتج بنا سرعة الأزمنة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. إبداع❤️
    أعادتني قوة السرد ودقة الوصف إلى ذلك اليوم وإلى تلك اللحظة التي اهتزت بها الأرض…
    رحم الله شهداء الوطن، وعافى كل قلب عانى الويلات إثر هذه الكارثة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى