تعيش الساحة المغربية في الآونة الأخيرة على إيقاع احتجاجات اجتماعية واسعة، كشفت عن أزمة ثقة حقيقية بين المواطن والمؤسسات.
فجيل الشباب، الذي كان يُعوَّل عليه في تجديد الحياة السياسية، وصل إلى قناعة مُرّة مفادها أن الخطاب السياسي في كثير من الأحيان يُخفي الحقيقة أكثر مما يُظهرها، ويُروّج لوعود انتخابية يعلم أصحابها أنها لن تتحقق.
إنها أزمة سياسية عميقة تتجاوز الأشخاص والأحزاب، تدفعنا لتطرح سؤال المصداقية في تدبير الشأن العام ؟، ومدى التزام الفاعل السياسي بقيم الصدق والشفافية التي تُعدّ من ركائز الديمقراطية الاجتماعية العادلة ؟
لقد كشفت التجربة المغربية في السنوات الأخيرة أن جزءًا كبيرًا من الأزمة السياسية مردّه إلى غياب الصدق والشفافية في الخطاب العام ، فالكثير من المسؤولين يسوّقون للداخل خطابًا عاما غير واضح ، بينما يقدّمون في المحافل الخارجية صورة وردية لا تعكس تمامًا الواقع الاجتماعي والاقتصادي للبلاد.
وهذا السلوك يُعدّ منافياً لجوهر الفصل الأول من دستور 2011، الذي ينص على أن:
“النظام الدستوري للمملكة يقوم على أساس فصل السلط، وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطِنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة.”
كما أن حجب المعطيات الدقيقة الخاصة بمؤشرات الفقر، والبطالة، وفرص العمل الممكنة ،والفوارق المجالية، يُعدّ مساسًا بمبدأ الحق في الحصول على المعلومة المنصوص عليه بالفصل 27 من الدستور، والذي يضمن للمواطنين حقهم في معرفة ما يجري داخل المؤسسات العمومية والمنتخبة بكل مصداقية ونزاهة.
فالشفافية ركيزة اساسية للحكامة الجيدة ، و لا يمكن لأي نظام سياسي أن يحقق التنمية والاستقرار دون ترسيخ الشفافية كقيمة وممارسة.
فالدستور المغربي في فصله 154 يُلزم المرافق العمومية بتطبيق مبادئ الشفافية والمحاسبة والمساواة، وهي مبادئ لا ينبغي أن تبقى حبيسة النصوص، بل يجب أن تتحول إلى أدوات عملية لتقييم الأداء العمومي.
ومن هذا المنطلق، فإن الصدق السياسي ينبغي أن يتحول من مجرد فضيلة أخلاقية إلى التزام مؤسساتي قابل للقياس، عبر إصدار تقارير حكومية دورية بلغة بسيطة تُمكّن المواطن من متابعة الوضع الاقتصادي والاجتماعي بوضوح ، وإلزام المنتخبين والوزراء بتقديم حصيلة سنوية لأعمالهم أمام الرأي العام، تطبيقًا للفصل 12 من الدستور الذي يؤكد على مبدأ المواطنة التشاركية والمساءلة ، دون اغفال تفعيل مقتضيات القانون رقم 31.13 المتعلق بالحق في الحصول على المعلومة ، الذي يُلزم الإدارات بنشر ميزانياتها وصفقاتها العمومية بشفافية كاملة.
إن استمرار ازدواجية الخطاب، وتزييف الحقائق، وغياب التواصل الصادق مع المواطنين، لن يؤدي إلا إلى تعميق الهوة بين الشعب ومؤسساته.
فالشباب المغربي اليوم أكثر وعيًا، وأكثر قدرة على تحليل الواقع ومساءلة الخطاب، ولم يعد يقبل بالتبريرات الفضفاضة أو الوعود الغير قابلة للإنجاز.
من هنا، يصبح الصدق في الممارسة السياسية ليس مجرد خيار، بل ضرورة لبناء مصالحة جديدة بين المواطنين والدولة، قوامها الوضوح في المعطيات، والجرأة في الاعتراف بالأخطاء ، والالتزام بالإصلاح الفعلي لا التشكي الشبه دائم .
إن الصدق والشفافية ليسا ترفًا سياسيًا، بل هما أساس كل مشروع ديمقراطي عادل ، فبدونهما، تُفقد الثقة في المؤسسات، ويضعف الإيمان بالسياسة كأداة للتغيير، وتُترك الساحة للمشاعر السلبية والاحتجاجات غير المؤطرة.
لقد جعل دستور 2011 من ربط المسؤولية بالمحاسبة، ومن الشفافية والحكامة الجيدة، أسسًا للحياة العامة.
ولذلك، فإن التحدي الحقيقي اليوم هو في ترجمة هذه المبادئ إلى ممارسات واقعية تُعيد الثقة إلى المواطن وتُكرّس العدالة الاجتماعية المنشودة.
الأستاذ مصطفى يخلف
محامٍ بهيئة أكادير
عضو جمعية عدالة